هو واحد ممن أنجبهم رحم المدينة الولود ، تجاوز عمره الثلاثون إلا أنه ممن يدعون بالمنغوليين ، به بعض التخلف في تكوينه الجسماني ، سمين وله ( كرش ) متكورة ورأس كبير يزينه صلع تام ، أما صدغيه عريضين ، له مشية معروفة يشوبها عرج خفيف ،، متسخ الملابس ورثها . أنسل في هذا الحي الأمدرماني كما النبت البروس بلا مقدمات وبلا استئذان ، سكن في إحدى الخرائب جاعلا من ( كرتونه ) سريرا له وبعض الأسمال البالية غطاءا وملابس يرتديها أو يخلعها كيفما شاء وأنا شاء ، تسرب للحي كخيط دخان وما أنفك أن ذاب فيه خالقا نوعا من العلاقات الحميمة مع بعض أصحاب المطاعم حيث يوفرون له بعض الفتات الذي يقتات منه ويسد به رمقه ، كان كيمو يقضي يومه كله متجولا في سوق الحي الصغير يداعب هذا ويتشاجر مع ذاك ويجادل بحدة بأن " هدف كلاتشي ما كان تسلل " في المريخ ويعقب جدله ببعض الشتائم البذيئة لمن يجادله ثم ما ينفك أن يمر على بائعات الشاي ويتوجه مباشرة لإحداهن والتي كان قلبه معلقا بها وكانت تبادله شعور هو خليط من الرأفة والحب وكانت تجزل له العطاء بمنحه كلما مر كأسا من الشاي وكان عادة ما يجلس مقابل لها ويبادلها بعض النظرات من عيناه الصغيرتان ثم يعقبها بغمزه ماكرة معبرا عن حبه لها وأحيانا تتسامي صبابته حتى تبلغ ذروتها فيصرح بأعلى صوته (أحبك يا طمطم ) فتبتسم طمطم في غنج انثوي لا يقطعه إلا ضحكات ممن تحلقون حول بائعات الشاي الأخريات واللائي يبدون أكثر جمالا وتأنقا من طمطم .
سار الحال كما هو عليه وكيمو يشارك في كل مناسبات الحي فتجده في المقابر يحمل الطوب والطين اللبن ويساعد في تسوية القبر بعد الانتهاء من مراسم الدفن كما تجده في الأفراح منذ الصباح الباكر يساعد في تركيب الصيوان ونظافته ورص الكراسي وتراه يحمل المياه لتعبئة المغاسل وآخر المطاف يكافأ بوجبة دسمة يحملها ويجلس بها خلف الصيوان بأمر من صاحب المناسبة وربما تعقبها كأس شاي ثم يذهب بعدها لمنزله ( مجازا ) لارتداء فانلته الحمراء والمكتوب عليها من الخلف كلمات انجليزية باهتة لا تبدو منها إلا كلمة fire ويرتدي حذاءه الشمواء ( الكموش ) وقد اهترأ نعلاه تماما ويذهب ليحتل مكانه في الحفل خلف المطربين ، حقا ما كان لمناسبة أن تتم دون حضور كيمو ومشاركاته .
وفي تلك الليلة الكئيبة حين دخلت قوات ( الظلم والتفريق) لمدينة أمدرمان كان كيمو يركض هنا وهناك يراقب إطلاق النار ويترصد الأخبار من القادمين من أمكان أخرى ، كان ذاك اليوم حسه الأخباري عاليا لدرجة تتصور أنك أمام مراسل لأحد وكالات الأنباء العالمية ، كان ما أن يسمع صوت دوي إلا ويجري مهرولا نحوه وفي ذلك الهرج الكثيف ، استقرت طلقة رصاصة طائشة في قلب كيمو وقطعا لم يجد من يلتفت له أو يساعده في أخذه لأقرب مستشفي لمعالجته أو إسعافه ، ومات كيمو ومثلما تسلل لذاك الحي كالدخان تسلل خارجا منه كالدخان ، وأفتقده كل أهل الحي إلى أن جاء من ينعاه لهم ، فبكي الحي بكاء مريرا وتبرع بعض أهل الحي بعمل سرادق يتلقون فيه العزاء في كيمو ، ويومها انتحبت طمطم نحيبا مرا فقد كان هو الوحيد الذي يعطيها الإحساس بأنوثتها ، مات كيمو وترك مكانا خاويا في حياة الناس في ذاك الحي العتيق .
الطيب مدني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق