(( دحين يالسرة تطري عاما أول لمن جونا ناس القراحة ،، الوردة المسكتك ديك كن دار توديك الآخرة )) قالت هذه العبارات الزينة وأناملها تقفز يمنة ويسرة وهي تمشط في جدائل إبنتها السرة ذات الثلاث وثلاثون عاما ولم يأذن الله في أمر زوجها بعد (( آي يا يمه كيفين ما بتذكر ومن يومها وأنا اتنضرت ما أتقرح تاني )) ردت السرة وابتسامة باهتة بانت من بين شفتيها المشققتين ، آثار من الندوب الغائرة على صفحة وجهها الشاحب تحكي عن تاريخ صاخب لتلك الفتاة المشاكسة ، جسد ناحل هزيل إلا من بعض التعرقات والعضلات الضامرات في سيقانها النحيلة وذاك من جراء المشي يوميا إلي البحر لورود الماء ، لم تعش السرة حياة هادئة كمثيلاتها من بنات القرية الأخريات ، كان ( الكركار ) لا يعرف طريق لشعرها الكث القصير المتلبد واظافرها لم تحلم يوما بطلاء الأظافر ( المنكير ) ، سواعد معروقة لا يزينها إلا سوار من البلاستيك الاحمر ، نشأت السرة في أسرة فقيرة تتكون من والد كهل ( حاج الصافي ) قد بلغ من العمر السبعون ونيف ، عاش حياته في عراك مع الفقر والفاقة ، يزاول الزراعة المطرية و لايملك لها من مقومات وكفاءة سوى ( طورية ) ليقرع بها الماء و ( سكاكة ) تساعدة في بذر البذور بعد الحراثة و( نجامة ) ينظف بها الأعشاب الطفيلية التي تنمو ما بين السرابات وفوق هذا وذاك يمتلك صبر جميل يحسده عليه كل أهل البلد.
أما والدتها حاجة الزينة فكانت سيدة قد تجاوز عمرها الخامسة والخمسون إلا أنها لا زالت تحتفظ ببقايا من لمسات جمال نبيل وقسمات تنبيء عن حسن بائد ، وتنظر بين ثنايا وجهها وبين التجاعيد التي بدأت ترتسم على وجهها فلا تكاد تفرق بين تلك التجاعيد وشلوخها ( المطارق ) المنسحبة على صفحة وجهها وشفاه يبدو بها آثر ( دق ) أخضر عميق ، كانت الزينة تعرف بأنها أمهر الماشطات في تلك القرية والقرى المجاورة (( أها المشاط تم ،، خليني أنكسر ليك المساير دي )) حينها عدلت السرة من جلستها لتكون في مواجهة أمها حتى تتمكن من ( كسر المساير ) ..... (( عليك الله يا يمه حسي الجاك ود فودة دا كان جاء وقال أنا داير " آخد " السرة دي بتدوه ؟؟؟؟ وترد الأم في انفعال ( بري) مالك بدوك للراجل السجمان دا؟؟ وبدأت الأم تكيل في السباب والشتائم على ذاك الجاك الذي كان يطلق الشائعات ذات اليمين وذات الشمال في القرية وفي مشرع ( البنطون ) و في ( الجزارة ) بأنه يحب السرة بن الصافي ود شيخ الحلة حتى بلغ به الحد أن كتب أسمها بأحرف مهزوزة في خلفية ( الكارو ) الذي كان يتكسب منه ن وقد شاع الخبر وعم الأقاصي مما ولد حنقا غير مبرر من هذه الأسرة التي لا تؤمن بجيشان العواطف والتعبير عنها وأنهم يرون في تلك الأخبار امتهان لكرامتهم رغم حالة الفقر والادقاع التي يعيشونها ، وسكتت السرة على مضض حيث أن قلبها قد تعلق بالجاك وكم كان يكن لها من ود ومحبة عارمة لا يجد لها أهل القرية أي مبرر مقنع .
استمر الحال على هذا المنوال إلى أن صحت القرية ذات يوم على شائعة تقول أن الجاك ( خطب من فريق فوق ) يبدو أن الجاك قد انهارت كل محاولاته في اقناع أهل السرة في الأرتباط الوثيق بها ، لم تصدق السرة تلك الشائعة وقد اعتصرها ألم مبرح كيف لا وأن اسرتها قد وقفت في طريق سعادتها ،، إرتمت السرة على ( العنقريب ) في صحن ذاك الدار المتهالك وكان القمر ليلتها بدرا ونسمات صيفية تؤرج يمنة ويسرة ،، وباحة الحوش المتسعة في صفاء إلا من بعض الظلال التي تخلفها تلك الاشجار الباسقة والمتناثر هنا وهناك ،،،، و لايتنامى الى مسامعها إلا صوت غناء آت من الضفة الثانية للنهر ( الهوج ) لعله ختان أولاد حاج الزين حسب ما تردد يومها ،،،، رقدت السرة وثنت الوسادة وسرحت بخيالها بعيدا تندب حظها العاثر كيف لا وقد رفض والدها زواجها من الجاك ( والله كان مشطتي السوداء بالبيضاء الزول العولاق دا ما ياخدك ) جرت دمعة حرى على خدها وتمر بخاطرتها تلك الكلمات التي سجع بها الجاك في عرس (ميمونة السمحة ) اذ اعتلى الجاك المنصة المعدة للفنان واخذ المايكرفون وأنشد قائلا :
المهرة الفي الخلاء اليوت سحابو مبرق
مابيني الغميد وديمة عقلـــي مشــــــرق
لو لا الملامة وخوف من اللسانا مطـرق
كت ابيت حداها ولي همومـــــــا أفــرق
لم يسترسل يومها الجاك في ذاك النظم الذي يحكي عن لوعته وتصريحه بحبه للسرة على ملاء من الناس مما أثار والدها الذي سارع بعصا غليظة وانهال على الجاك ضربا لولا تدخل الأجاويد ليلتها وفض تلك المشكلة التي كاد أن يصبح فيها الجاك جثة هامدة . كان اعتراض اهلها عليه لا يزيده الا ولها وحبا عارما لها .. تذكرت تلك اللواعج والاعتمالات التي تختلج في دواخلها والدموع كادت ان تروي تلك الوسادة التي كانت تتوسدها ولم يقطع هذا الاسترسال في هذه المشاعر الجياشة والحسرة التي قضت على الحشاشة إلا صوت المؤذن وهو يؤذن لصلاة الفجر ،، كان قد بلغ التعب مبلغه بهذه الفتاة فراحت في سبات عميق لم يوقظها منه إلا صوت الحاجة الزينة (( يابت النهار طلع قومي جيبي ليكي موية أملي الزيار دي )) .
كان صباحا مكفهرا وكانت الشمس حارقة غير عادتها في ذاك الصباح ، أخذت السرة تجر ارجلها بتثاقل نحو النهر لتملاء منه ( جردلها ) ،، وقفت على حافة النهر وهي سارحة بالخيال وطعم تلك الشائعة التي انطلقت تملاء خياشيم تلك القرية الوادعة في حلقها أمر من العلقم ،، حاولت الإنحناء لملء الأناء وهي تحسب ببرد قارس يخرج من مسامها فيختلط بلفح الشمس الحارقة وصور وخيالات مزعجة تتزاحم في مخيلتها ،،، وفي تلك اللحظة انزلقت قدماها على تلك الحافة من النهر وما هي إلا لحظات كانت السرة قد غابت عن الأنظار والى الأبد ،، غابت وهي تحمل في جوانحها زفرات حرى وعبرات ودموع قد تيبست في محاجرها ،، وذكرى حب لن يساها الزمان .
الطيب مدني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق